الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* وَقَالَ شُرَيْحٌ إِنْ شَاءَ رَدَّ مِنْ الزِّنَا الشرح: قوله: (باب بيع العبد الزاني) أي جوازه مع بيان عيبه. قوله: (وقال شريح إن شاء رد من الزنا) وصله سعيد بن منصور من طريق ابن سيرين أن رجلا اشترى من رجل جارية كانت فجرت ولم يعلم بذلك المشتري، فخاصمه إلى شريح فقال: إن شاء رد من الزنا، وإسناده صحيح. ثم أورد المصنف في الباب حديث " إذا زنت الأمة فليجلدها " الحديث أورده من وجهين، وشاهد الترجمة منه قوله في آخره " فليبعها ولو بحبل من شعر " فإنه يدل على جواز بيع الزاني، ويشعر بأن الزنا عيب في المبيع لقوله ولو بحبل من شعر، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: فائدة الأمر ببيع الأمة الزانية المبالغة في تقبيح فعلها، والإعلام بأن الأمة الزانية لا جزاء لها إلا البيع أبدا، وأنها لا تبقى عند سيد زجرا لها عن معاودة الزنا، ولعل ذلك يكون سببا لإعفافها إما أن يزوجها المشتري أو يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته. *3* الشرح: قوله: (باب الشراء والبيع مع النساء) أورد فيه حديث عائشة وابن عمر في قصة شراء بريرة، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في الشروط إن شاء الله تعالى، وشاهد الترجمة منه قوله " ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله " لإشعاره بأن قصة المبايعة كانت مع رجال، وكان الكلام في هذا مع عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله في آخر حديث ابن عمر " قلت لنافع الخ " هو قول همام الراوي عنه، وسيأتي ذكر الاختلاف في زوج بريرة هل كان حرا أو عبدا في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. وحسان أول السند وقع عند المستملي " ابن أبي عباد " وعند غيره " حسان بن حسان " وهما واحد. *3* وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ الشرح: قوله: (باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر، وهل يعينه أو ينصحه) قال ابن المنير وغيره: حمل المصنف النهي عن بيع الحاضر للبادي على معنى خاص وهو البيع بالأجر أخذا من تفسير ابن عباس، وقوى ذلك بعموم أحاديث " الدين النصيحة " لأن الذي يبيع بالأجرة لا يكون غرضه نصح البائع غالبا وإنما غرضه تحصيل الأجرة فاقتضى ذلك إجازة بيع الحاضر للبادي بغير أجرة من باب النصيحة. قلت: ويؤيده ما سيأتي في بعض طرق الحديث المعلق أول أحاديث الباب، وكذلك ما أخرجه أبو داود من طريق سالم المكي " أن أعرابيا حدثه أنه قدم بحلوبة له على طلحة بن عبيد الله، فقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد، ولكن اذهب إلى السوق فانظر من يبايعك فشاورني حتى آمرك وأنهاك". قوله: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له) هو طرف من حديث وصله أحمد من حديث عطاء بن السائب عن حكيم بن أبى يزيد عن أبيه " حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرجل الرجل فلينصح له " ورواه البيهقي من طريق عبد الملك بن عمير عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا مثله، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير بلفظ " لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". قوله: (ورخص فيه عطاء) أي في بيع الحاضر للبادي، وصله عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الله ابن عثمان أي ابن خثيم عن عطاء بن أبي رباح قال " سألته عن أعرابي أبيع له فرخص لي " وأما ما رواه سعيد بن منصور من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال " إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد لأنه أراد أن يصيب المسلمون غرتهم، فأما اليوم فلا بأس. فقال عطاء: لا يصلح اليوم. فقال مجاهد. ما أرى أبا محمد إلا لو أتاه ظئر له من أهل البادية إلا سيبيع له"، فالجمع بين الروايتين عن عطاء أن يحمل قوله هذا على كراهة التنزيه ولهذا نسب إليه مجاهد ما نسب، وأخذ بقول مجاهد في ذلك أبو حنيفة وتمسكوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة " وزعموا أنه ناسخ لحديث النهي، وحمل الجمهور حديث " الدين النصيحة " على عمومه إلا في بيع الحاضر للبادي فهو خاص فيقضى على العام والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وجمع البخاري بينهما بتخصيص النهي بمن يبيع له بالأجرة كالسمسار، وأما من ينصحه فيعلمه بأن السعر كذا مثلا فلا يدخل في النهي عنده والله أعلم. ثم أورد المصنف في الباب حديثين: الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ سَمِعْتُ جَرِيرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ الشرح: حديث جرير في النصح لكل مسلم وقد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب الإيمان. الحديث: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا الشرح: قوله: (حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد قوله: (لا تلقوا الركبان) زاد الكشميهني في روايته " للبيع " وسيأتي الكلام عليه قريبا. قوله: (لا يكون له سمسارا) بمهملتين هو في الأصل القيم بالأمر والحافظ له، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره، وفي هذا التفسير تعقب على من فسر الحاضر بالبادي بأن المراد نهى الحاضر أن يبيع للبادي في زمن الغلاء شيئا يحتاج إليه أهل البلد فهذا مذكور في كتب الحنفية. وقال غيرهم: صورته أن يجيء البلد غريب بسلعته يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه بلدي فيقول له: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر، فجعلوا الحكم منوطا بالبادي ومن شاركه في معناه. قال وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب فالحق به من يشاركه في عدم معرفة السعر الحاضر وإضرار أهل البلد بالإشارة عليه بأن لا يبادر بالبيع، وهذا تفسير الشافعية والحنابلة، وجعل المالكية البداوة قيدا، وعن مالك لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه، قال فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق فليسوا داخلين في ذلك. قال ابن المنذر: اختلفوا في هذا النهي فالجمهور أنه على التحريم بشرط العلم بالنهي وأن يكون المتاع المجلوب مما يحتاج إليه وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي، فلو عرضه البدوي على الحضري لم يمنع. وزاد بعض الشافعية عموم الحاجة وأن يظهر ببيع ذلك المتاع السعة في تلك البلد، قال ابن دقيق العيد: أكثر هذه الشروط تدور بين اتباع المعنى أو اللفظ، والذي ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء فحيث يظهر يخصص النص أو يعمم، وحيث يخفي فاتباع اللفظ أولى، فأما اشتراط أن يلتمس البلدي ذلك فلا يقوي لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه، فإن الضرر الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البلدي وعدمه، وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه فمتوسط بين الظهور وعدمه، وأما اشتراط ظهور السعة فكذلك أيضا لاحتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق على أهل البلد، وأما اشتراط العلم بالنهي فلا إشكال فيه. وقال السبكي: شرط حاجة الناس إليه معتبر، ولم يذكر جماعة عمومها وإنما ذكره الرافعي تبعا للبغوي ويحتاج إلى دليل. واختلفوا أيضا فيما إذا وقع البيع مع وجود الشروط المذكورة هل يصح مع التحريم أو لا يصح؟ على القاعدة المشهورة. *3* الشرح: قوله: (باب من كره أن يبيع حاضر لباد بأجر) وبه قال ابن عباس، أي حيث فسر ذلك بالسمسار كما في الحديث الذي قبله. الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الشرح: قوله: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد) كذا أورده من حديث ابن عمر ليس فيه التقييد بالأجر كما في الترجمة. قال ابن بطال: أراد المصنف أن بيع الحاضر للبادي لا يجوز بأجر ويجوز بغير أجر، واستدل على ذلك بقول ابن عباس، وكأنه قيد به مطلق حديث ابن عمر قال: وقد أجاز الأوزاعي أن يشير الحاضر على البادي وقال: ليست الإشارة بيعا. وعن الليث وأبي حنيفة لا يشير عليه، لأنه إذا أشار عليه فقد باعه. وعند الشافعية في ذلك وجهان والراجح منهما الجواز لأنه إنما نهى عن البيع له وليست الإشارة بيعا، وقد ورد الأمر بنصحه فدل على جواز الإشارة. (تنبيه) : حديث ابن عمر فرد غريب لم أره إلا من رواية أبي علي الحنفي عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن دينار، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وعلى أبي نعيم فلم يخرجاه إلا من طريق البخاري، وله أصل من حديث ابن عمر أخرجه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر وليس هو في " الموطأ " قال البيهقي: عدوه في أفراد الشافعي، وقد تابعه القعنبي عن مالك ثم ساقه بإسنادين إلى القعنبي. *3* وَكَرِهَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ إِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ بِعْ لِي ثَوْبًا وَهِيَ تَعْنِي الشِّرَاءَ الشرح: قوله: (باب لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة) أي قياسا على البيع له أو استعمالا للفظ البيع في البيع والشراء، قال ابن حبيب المالكي، الثراء للبادي مثل البيع، لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يبيع بعضكم على بعض " فإن معناه الشراء. وعن مالك في ذلك روايتان. قوله: (وكرهه ابن سيرين وإبراهيم للبائع والمشتري) أما قول ابن سيرين فوصله أبو عوانة في صحيحه من طريق سلمة بن علقمة عن ابن سيرين قال " لقيت أنس بن مالك فقلت: لا يبيع حاضر لباد، أنهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم؟ قال: نعم". قال محمد: وصدق أنها كلمة جامعة، وقد أخرجه أبو داود من طريق أبي بلال عن ابن سيرين عن أنس بلفظ " كان يقال لا يبيع حاضر لباد " وهي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يبتاع له شيئا " وأما إبراهيم فهو النخعي فلم أقف عنه كذلك صريحا. قوله: (قال إبراهيم: إن العرب تقول بع لي ثوبا وهي تعني الشراء) هذا قاله إبراهيم استدلالا لما ذهب إليه من التسوية بين البيع والشراء في الكراهة. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث أبي هريرة. الحديث: حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْتَاعُ الْمَرْءُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ الشرح: قوله: (عن ابن شهاب) في رواية الإسماعيلي عن طريق أبي عاصم عن ابن جريج " أخبرني ابن شهاب". قوله: (لا يبتع المرء) كذا للأكثر، وللكشميهني لا يبتاع وهو خبر بمعنى النهي: وقد تقدم البحث فيه قبل بأبواب، وكذا على قوله لا تناجشوا. ثانيهما حديث أنس. *3* وَأَنَّ بَيْعَهُ مَرْدُودٌ لِأَنَّ صَاحِبَهُ عَاصٍ آثِمٌ إِذَا كَانَ بِهِ عَالِمًا وَهُوَ خِدَاعٌ فِي الْبَيْعِ وَالْخِدَاعُ لَا يَجُوزُ الشرح: قوله: (باب النهي عن تلقي الركبان، وأن بيعه مردود لأن صاحبه عاص آثم إذا كان به عالما، وهو خدع في البيع والخداع لا يجوز) جزم المصنف بأن البيع مردود بناء على أن النهي يقتضي الفساد، لكن محل ذلك عند المحققين فيما يرجع إلى ذات المنهي عنه لا ما إذا كان يرجع إلى أمر خارج عنه فيصح البيع ويثبت الخيار بشرطه الآتي ذكره، وأما كون صاحبه عاصيا آثما والاستدلال عليه بكونه خداعا فصحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون البيع مردودا لأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل بشيء من أركانه وشرائطه وإنما هو لدفع الأضرار بالركبان، والقول ببطلان البيع صار إليه بعض المالكية وبعض الحنابلة، ويمكن أن يحمل قول البخاري أن البيع مردود على ما إذا اختار البائع رده فلا يخالف الراجح، وقد تعقبه الإسماعيلي وألزمه التناقض ببيع المصراة فإن فيه خداعا ومع ذلك لم يبطل البيع، وبكونه فصل في بيع الحاضر للبادي بين أن يبيع له بأجر أو بغير أجر، واستدل عليه أيضا بحديث حكيم بن حزام الماضي في بيع الخيار ففيه " فإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما " قال فلم يبطل بيعهما بالكذب والكتمان للعيب، وقد ورد بإسناد صحيح " أن صاحب السلعة إذا باعها لمن تلقاه يصير بالخيار إذا دخل السوق " ثم ساقه من حديث أبي هريرة، قال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة التلقي وكرهه الجمهور. قلت: الذي في كتب الحنفية يكره التلقي في حالتين: أن يضر بأهل البلد، وأن يلتبس السعر على الواردين. ثم اختلفوا: فقال الشافعي من تلقاه فقد أساء وصاحب السلعة بالخيار، وحجته حديث أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الجلب، فإن تلقاه فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق". قلت: وهو حديث أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة من طريق أيوب، وأخرجه مسلم من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ " لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار " وقوله " فهو بالخيار " أي إذا قدم السوق وعلم السعر، وهل يثبت له مطلقا أو بشرط أن يقع له في البيع غبن؟ وجهان، أصحهما الأول وبه قال الحنابلة، وظاهره أيضا أن النهي لأجل منفعة البائع وإزالة الضرر عنه وصيانته ممن يخدعه. قال ابن المنذر: وحمله مالك على نفع أهل السوق لا على نفع رب السلعة، وإلى ذلك جنح الكوفيون والأوزاعي قال: والحديث حجة للشافعي لأنه أثبت الخيار للبائع لا لأهل السوق. انتهى. واحتج مالك بحديث ابن عمر المذكور في آخر الباب، وسيأتي الكلام على ذلك. وقد ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّلَقِّي وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الوهاب) هو ابن عبد المجيد الثقفي. قوله: (عن سعيد بن أبي سعيد) هو المقبري. قوله: (عن التلقي) ظاهره منع التلقي مطلقا سواء كان قريبا أم بعيدا، سواء كان لأجل الشراء منهم أم لا، وسيأتي البحث فيه. الحديث: حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَبِيعَنَّ حَاضِرٌ لِبَادٍ فَقَالَ لَا يَكُنْ لَهُ سِمْسَارًا الشرح: قوله: (حدثنا عبد الأعلى) هو ابن عبد الأعلى. قوله: (سألت ابن عباس) كذا رواه مختصرا وليس فيه للتلقي ذكر، وكأنه أشار على عادته إلى أصل الحديث، فقد سبق قبل بابين من وجه آخر عن معمر وفي أوله " لا تلقوا الركبان " وكذا أخرجه مسلم من وجه آخر عن معمر، والقول في حديث ابن عباس كالقول في حديث أبي هريرة، وقوله "لا تلقوا الركبان " خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام يكونون عددا ركبانا، ولا مفهوم له بل لو كان الجالب عددا مشاة أو واحدا راكبا أو ماشيا لم يختلف الحكم. وقوله "للبيع " يشمل البيع لهم والبيع منهم، ويفهم منه اشتراط قصد ذلك بالتلقي، فلو تلقى الركبان أحد للسلام أو الفرجة أو خرج لحاجة له فوجدهم فبايعهم هل يتناوله النهي؟ فيه احتمال، فمن نظر إلى المعنى لم يفترق عنده الحكم بذلك وهو الأصح عند الشافعية، وشرط بعض الشافعية في النهي أن يبتدئ المتلقي فيطلب من الجالب البيع، فلو ابتدأ الجالب بطلب البيع فاشترى منه المتلقي لم يدخل في النهي، وذكر إمام الحرمين في صورة التلقي المحرم أن يكذب في سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل، وذكر المتولي فيها أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول، وذكر أبو إسحاق الشيرازي أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم، وقد يؤخذ من هذه التقييدات إثبات الخيار لمن وقعت له ولو لم يكن هناك تلق، لكن صرح الشافعية أن كون إخباره كذبا ليس شرطا لثبوت الخيار وإنما يثبت له الخيار إذا ظهر الغبن فهو المعتبر وجودا وعدما. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنِي التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَنْ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا قَالَ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَلَقِّي الْبُيُوعِ الشرح: حديث ابن مسعود، وقد مضى الكلام عليه في المصراة، والغرض منه هنا قوله " ونهى عن تلقي البيوع " فإنه يقتضي تقييد النهي المطلق في التلقي بما إذا كان لأجل المبايعة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلَا تَلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ الشرح: حديث ابن عمر، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده. فدلت الطريقة الثالثة - وهي في الباب الذي يليه من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع - أن الوصول إلى أول السوق لا يلقى حتى يدخل السوق، وإلى هذا ذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وغيرهم، وصرح جماعة من الشافعية بأن منتهى النهي عن التلقي لا يدخل البلد سواء وصل إلى السوق أم لا، وعند المالكية في ذلك اختلاف كثير في حد التلقي. قوله: (ولا تلقوا السلع) بفتح أوله واللام وتشديد القاف المفتوحة وضم الواو أي تتلقوا فحذفت إحدى التاءين. ثم إن مطلق النهي عن التلقي يتناول طول المسافة وقصرها وهو ظاهر إطلاق الشافعية، وقيد المالكية محل النهي بحد مخصوص، ثم اختلفوا فيه فقيل ميل وقيل فرسخان وقيل يومان وقيل مسافة القصر وهو قول الثوري، وأما ابتداؤها فسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده. الشرح: قوله: (باب منتهى التلقي) أي وابتدائه، وقد ذكرنا أن الظاهر أنه لا حد لانتهائه من جهة الجالب، وأما من جهة المتلقي فقد أشار المصنف بهذه الترجمة إلى أن ابتداءه الخروج من السوق أخذا من قول الصحابي إنهم كانوا يتبايعون بالطعام في أعلى السوق فيبيعونه في مكانه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه، ولم ينههم عن التبايع في أعلى السوق فدل على أن التلقي إلى أعلى السوق جائز، فإن خرج عن السوق ولم يخرج من البلد فقد صرح الشافعية بأنه لا يدخل في النهي، وحد ابتداء التلقي عندهم الخروج من البلد والمعنى فيه أنهم إذا قدموا البلد أمكنهم معرفة السعر وطلب الحظ لأنفسهم، فإن لم يفعلوا ذلك فهو من تقصيرهم، وأما إمكان معرفتهم ذلك قبل دخول البلد فنادر، والمعروف عند المالكية اعتبار السوق مطلقا كما هو ظاهر الحديث، وهو قول أحمد وإسحاق، وعن الليث كراهة التلقي ولو في الطريق ولو على باب البيت حتى تدخل السلعة السوق. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمْ الطَّعَامَ فَنَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى يُبْلَغَ بِهِ سُوقُ الطَّعَامِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ هَذَا فِي أَعْلَى السُّوقِ يُبَيِّنُهُ حَدِيثُ عُبَيْدِ اللَّهِ الشرح: قوله: (قال أبو عبد الله) هو المصنف. قوله: (هذا في أعلى السوق) أي حديث جويرية عن نافع بلفظ " كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام " الحديث، قال البخاري: وبينه حديث عبيد الله بن عمر يعني عن نافع أي حيث قال " كانوا يتبايعون الطعام في أعلى السوق " الحديث مثله، وأراد البخاري بذلك الرد على من استدل به على جواز تلقي الركبان لإطلاق قول ابن عمر " كنا نتلقى الركبان " ولا دلالة فيه، لأن معناه أنهم كانوا يتلقونهم في أعلى السوق كما في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع، وقد صرح مالك في روايته عن نافع بقوله " ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها السوق " فدل على أن التلقي الذي لم ينه عنه إنما هو ما بلغ السوق، والحديث يفسر بعضه بعضا. وادعى الطحاوي التعارض في هاتين الروايتين وجمع بينهما بوقوع الضرر لأصحاب السلع وعدمه، قال فيحمل حديث النهي على ما إذا حصل الضرر، وحديث الإباحة على ما إذا لم يحصل، ولا يخفى رجحان الجمع الذي جمع به البخاري والله أعلم. (تنبيه) : وقع قول البخاري " هذا في أعلى السوق " عقب رواية عبيد الله بن عمر في رواية أبي ذر، ووقع في رواية غيره عقب حديث جويرية وهو الصواب. *3* الشرح: قوله: (باب إذا اشترط في البيع شروطا لا تحل) أي هل يفسد البيع بذلك أم لا؟ أورد فيه حديثي عائشة وابن عمر في قصة بريرة، وكأن غرضه بذلك أن النهي يقتضي الفساد فيصح ما ذهب إليه من أن النهي عن تلقي الركبان يرد به البيع، وسيأتي الكلام عليه في كتاب الشروط إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب بيع التمر بالتمر) أورد فيه حديث عمر مختصرا. وسيأتي الكلام عليه بعد باب. *3* الشرح: قوله: (باب بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام) ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن المزابنة من طريقين، وسيأتي الكلام عليه بعد خمسة أبواب. وفي الطريق الثانية حديث ابن عمر عن زيد بن ثابت في العرايا، وسيأتي الكلام عليه بعد سبعة أبواب. وذكر في الترجمة الطعام بالطعام وليس في الحديث الذي ذكره للطعام ذكر، وكذلك ذكر فيها الزبيب بالزبيب والذي في الحديث الزبيب بالكرم، قال الإسماعيلي: لعله أخذ ذلك من جهة المعنى، قال: ولو ترجم للحديث ببيع التمر في رءوس الشجر بمثله من جنسه يابسا لكان أولى. انتهى. ولم يخل البخاري بذلك كما سيأتي بعد ستة أبواب، وأما هنا فكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه من ذكر الطعام، وهو في رواية الليث عن نافع كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وروى مسلم من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا " الطعام بالطعام مثلا بمثل". *3* الشرح: قوله: (باب بيع الشعير بالشعير) أي ما حكمه؟ الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي فَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنْ الْغَابَةِ وَعُمَرُ يَسْمَعُ ذَلِكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ الشرح: قوله: (أنه التمس صرفا) بفتح الصاد المهملة أي من الدراهم بذهب كان معه، وبين ذلك الليث في روايته عن ابن شهاب ولفظه " عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أقبلت أقول من يصطرف الدراهم؟". قوله: (فتراوضنا) بضاد معجمة أي تجارينا الكلام في قدر العوض بالزيادة والنقص كأن كلا منهما كان يروض صاحبه ويسهل خلقه، وقيل المراوضة هنا المواصفة بالسلعة، وهو أن يصف كل منهما سلعته لرفيقه. قوله: (فأخذ الذهب يقلبها) أي الذهبة، والذهب يذكر ويؤنث فيقال ذهب وذهبة. أو يحمل على أنه ضمن الذهب معنى العدد المذكور وهو المائة فأنثه لذلك. وفي رواية الليث " فقال طلحة إذا جاء خادمنا نعطيك ورقك " ولم أقف على تسمية الخازن الذي أشار إليه طلحة. قوله: (من الغابة) بالغين المعجمة وبعد الألف موحدة يأتي شرح أمرها في أواخر الجهاد في قصة تركة الزبير بن العوام، وكأن طلحة كان له بها مال من نخل وغيره وأشار إلى ذلك ابن عبد البر. قوله: (حتى تأخذ منه) أي عوض الذهب، في رواية الليث " والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فذكره. قوله: (الذهب بالورق ربا) قال ابن عبد البر لم يختلف على مالك فيه وحمله عنه الحفاظ حتى رواه يحيى بن أبي كثير عن الأوزاعي عن مالك، وتابعه معمر والليث وغيرهما، وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة. وشذ أبو نعيم عنه فقال " الذهب بالذهب " كذلك رواه ابن إسحاق عن الزهري، ويجوز في قوله " الذهب بالورق " الرفع أي بيع الذهب بالورق فحذف المضاف للعلم به، أو المعنى الذهب يباع بالذهب، ويجوز النصب أي بيعوا الذهب، والذهب يطلق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها، والورق الفضة وهو بفتح الواو وكسر الراء وبإسكانها على المشهور ويجوز فتحهما، وقيل بكسر الواو المضروبة وبفتحها المال، والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة. قوله: (إلا هاء وهاء) بالمد فيهما وفتح الهمزة، وقيل بالكسر، وقيل بالسكون، وحكى القصر بغير همز وخطأها الخطابي، ورد عليه النووي وقال: هي صحيحة لكن قليلة والمعنى خذ وهات، وحكى " هاك " بزيادة كاف مكسورة ويقال " هاء " بكسر الهمزة بمعنى هات وبفتحها بمعنى خذ بغير تنوين. وقال ابن الأثير: هاء وهاء هو أن يقول كل واحد من البيعين هاء فيعطيه ما في يده كالحديث الآخر " إلا يدا بيد " يعني مقابضه في المجلس. وقيل معناه خذ وأعط، قال وغير الخطابي يجيز فيها السكون على حذف العوض ويتنزل منزلة " ها " التي للتنبيه. وقال ابن مالك: ما اسم فعل بمعنى خذ، وإن وقعت بعد إلا فيجب تقدير قول قبله يكون به محكيا فكأنه قيل: ولا الذهب بالذهب إلا مقولا عنده من المتبايعين هاء وهاء. وقال الخليل: كلمة تستعمل عند المناولة، والمقصود من قوله " هاء وهاء " أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه هاء فيتقابضان في المجلس قال ابن مالك: حقها أن لا تقع بعد إلا كما لا يقع بعدها خذ، قال: فالتقدير لا تبيعوا الذهب بالورق إلا مقولا بين المتعاقدين هاء وهاء. واستدل به على اشتراط التقابض في الصرف في المجلس وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعن مالك لا يجوز الصرف إلا عند الإيجاب بالكلام، ولو انتقلا من ذلك الموضع إلى آخر لم يصح تقابضهما، ومذهبه أنه لا يجوز عنده تراخي القبض في الصرف سواء كانا في المجلس أو تفرقا، وحمل قول عمر " لا يفارقه " على الفور حتى لو أخر الصير في القبض حتى يقوم إلى قعو دكانه ثم يفتح صندوقه لما جاز. قوله: (البر بالبر) بضم الموحدة ثم راء من أسماء الحنطة، والشعير بفتح أوله معروف وحكى جواز كسره، واستدل به على أن البر والشعير صنفان وهو قول الجمهور، وخالف في ذلك مالك والليث والأوزاعي فقالوا هما صنف واحد، قال ابن عبد البر: في هذا الحديث أن الكبير يلي البيع والشراء لنفسه وإن كان له وكلاء وأعوان يكفونه. وفيه المماكسة في البيع والمراوضة وتقليب السلعة، وفائدته الأمن من الغبن، وأن من العلم ما يخفى على الرجل الكبير القدر حتى يذكره غيره، وأن الإمام إذا سمع أو رأى شيئا لا يجوز ينهى عنه ويرشد إلى الحق، وأن من أفتى بحكم حسن أن يذكر دليله، وأن يتفقد أحوال رعيته ويهتم بمصالحهم. وفيه اليمين لتأكيد الخبر، وفيه الحجة بخبر الواحد، وأن الحجة على من خالف في حكم من الأحكام التي في كتاب الله أو حديث رسوله. وفيه أن النسيئة لا تجوز في بيع الذهب بالورق، وإذا لم يجز فيهما مع تفاضلهما بالنسيئة فأحرى أن لا يجوز في الذهب بالذهب وهو جنس واحد، وكذا الورق بالورق، يعني إذا لم تكن رواية ابن إسحاق ومن تابعه محفوظة فيؤخذ الحكم من دليل الخطاب، وقد نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على هذا الحكم، أي التسوية في المنع بين الذهب بالذهب وبين الذهب بالورق فيستغنى حينئذ بذلك عن القياس. *3* الشرح: قوله: (باب بيع الذهب بالذهب) تقدم حكمه في الباب الذي قبله، وذكر المصنف فيه حديث أبي بكرة، ثم أورده بعد ثلاثة أبواب من وجه آخر عن يحيى بن أبى إسحاق، ورجال الإسنادين بصريون كلهم. وأخذ حكم بيع الذهب بالورق من قوله " وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم " وفي الرواية الأخرى " وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا " الحديث، وسيأتي الكلام عليه *3* الشرح: قوله: (باب بيع الفضة بالفضة) تقدم حكمه أيضا. الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا عَمِّي حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ حَدَّثَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ يَا أَبَا سَعِيدٍ مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ فِي الصَّرْفِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ مِثْلًا بِمِثْلٍ الشرح: قوله: (حدثني عبيد الله ابن سعد) زاد في رواية المستملي " وهو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف " وابن أخي الزهري هو محمد بن عبد الله بن مسلم. قوله: (عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عبد الله بن عمر فقال: يا أبا سعيد ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو سعيد في الصرف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) فذكر الحديث، هكذا ساقه وفيه اختصار وتقديم وتأخير، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجهين عن يعقوب بن إبراهيم شيخ شيخ البخاري فيه بلفظ " إن أبا سعيد حدثه حديثا مثل حديث عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصرف فقال أبو سعيد " فذكره، فظهر بهذه الرواية معنى قوله " مثل ذلك " أي مثل حديث عمر، أي حديث عمر الماضي قريبا في قصة طلحة بن عبيد الله، وتكلف الكرماني هنا فقال: قوله " مثل ذلك " أي مثل حديث أبي بكرة في وجوب المساواة، ولو وقف على رواية الإسماعيلي لما عدل عنها. وقوله "فلقيه عبد الله " أي بعد أن كان سمع منهم الحديث فأراد أن يستثبته فيه، وقد وقع لأبي سعيد مع ابن عمر في هذا الحديث قصة وهي هذه، ووقعت له فيه مع ابن عباس قصة أخرى كما في الباب الذي بعده، فأما قصته مع ابن عمر فانفرد بها البخاري من طريق سالم، وأخرجها مسلم من طريق الليث عن نافع ولفظه " إن ابن عمر قال له رجل من بني ليث: إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه والليث حتى دخل على أبي سعيد الخدري فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل " الحديث، فأشار أبو سعيد بإصبعيه إلى عينيه وأذنيه فقال " أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل " الحديث. ولمسلم من طريق أبي نضرة في هذه القصة لابن عمر مع أبي سعيد " إن ابن عمر نهى عن ذلك بعد إن كان أفتى به لما حدثه أبو سعيد بنهي النبي صلى الله عليه وسلم " وأما قصة أبي سعيد مع ابن عباس فسأذكرها في الباب الذي يليه. قوله في الرواية الأولى (الذهب بالذهب) يجوز في الذهب الرفع والنصب، وقد تقدم توجيهه، ويدخل في الذهب جميع أصنافه من مضروب ومنقوش وجيد ورديء وصحيح ومكسر وحلى وتبر وخالص ومغشوش، ونقل النووي تبعا لغيره في ذلك الإجماع. قوله: (مثل بمثل) كذا في رواية أبي ذر بالرفع، ولغير أبي ذر " مثلا بمثل " وهو مصدر في موضع الحال أي الذهب يباع بالذهب موزونا بموزون، أو مصدر مؤكد أى يوزن وزنا بوزن، وزاد مسلم في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه " إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ الشرح: قوله: (ولا تشفوا) بضم أوله وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء أي تفضلوا، وهو رباعي من أشف، والشف بالكسر الزيادة، وتطلق على النقص. قوله: (ولا تبيعوا منها غائبا بناجز) بنون وجيم وزاي مؤجلا بحال، أي والمراد بالغائب أعم من المؤجل كالغائب عن المجلس مطلقا مؤجلا كان أو حالا والناجز الحاضر، قال ابن بطال: فيه حجز للشافعي في قوله: من كان له على رجل دراهم ولآخر عليه دنانير لم يجز أن يقاص أحدهما الآخر بما له لأنه يدخل في معنى بيع الذهب بالورق دينا، لأنه إذا لم يجز غائب بناجز فأحرى أن لا يجوز غائب بغائب، وأما الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن عن ابن عمر قال " كنت أبيع الإبل بالبقيع: أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس به إذا كان بسعر يومه ولم تفترقا وبينكما شيء " فلا يدخل في بيع الذهب بالورق دينا، لأن النهي بقبض الدراهم عن الدنانير لم يقصد إلى التأخير في الصرف قاله ابن بطال، واستدل بقوله " مثلا بمثل " على بطلان البيع بقاعدة مد عجوة وهو أن يبيع مد عجوة ودينارا بدينارين مثلا، وأصرح من ذلك في الاستدلال على المنع حديث فضالة بن عبيد عند مسلم في رد البيع في القلادة التي فيها خرز وذهب حتى تفصل أخرجه مسلم. وفي رواية أبي داود " فقلت إنما أردت الحجارة، فقال: لا حتى تميز بينهما". *3* الشرح: قوله: (باب بيع الدينار بالدينار نساء) بفتح النون المهملة والمد والتنوين منصوبا، أي مؤجلا مؤخرا، يقال أنسأه نساء ونسيئة. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ الزَّيَّاتَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ فَقُلْتُ لَهُ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَقُولُهُ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ كُلَّ ذَلِكَ لَا أَقُولُ وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ الشرح: قوله: (الضحاك بن مخلد) هو أبو عاصم شيخ البخاري، وقد حدث في مواضع عنه بواسطة كهذا الموضع. قوله: (سمع أبا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم) كذا وقع في هذه الطريق، وقد أخرجه مسلم من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فزاد فيه " مثلا بمثل، من زاد أو ازداد فقد أربى". قوله: (إن ابن عباس لا يقوله) في رواية مسلم " يقول غير هذا". قوله: (فقال أبو سعيد سألته) في رواية مسلم " لقد لقيت ابن عباس فقلت له". قوله: (فقال كل ذلك لا أقول) بنصب " كل"؛ على أنه مفعول مقدم، وهو في المعنى نظير قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين " كل ذلك لم يكن " فالمنفي هو المجموع. وفي رواية مسلم " فقال لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا وجدته في كتاب الله عز وجل " ولمسلم من طريق عطاء " أن أبا سعيد لقي ابن عباس " فذكر نحوه وفيه " فقال كل ذلك لا أقول، أما رسول الله فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه " أي لا أعلم هذا الحكم فيه، وإنما قال لأبي سعيد " أنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني " لكون أبي سعيد وأنظاره كانوا أسن منه وأكثر ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي السياق دليل على أن أبا سعيد وابن عباس متفقان على أن الأحكام الشرعية لا تطلب إلا من الكتاب أو السنة. قوله: (لا ربا إلا في النسيئة) في رواية مسلم " الربا في النسيئة " وله من طريق عبيد الله بن أبي يزيد وعطاء جميعا عن ابن عباس " إنما الربا في النسيئة " زاد في رواية عطاء " ألا إنما الربا " وزاد في رواية طاوس عن ابن عباس " لا ربا فيما كان يدا بيد " وروى مسلم من طريق أبي نضرة قال " سألت ابن عباس عن الصرف فقال: أيدا بيد؟ قلت نعم، قال فلا بأس. فأخبرت أبا سعيد فقال: أو قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتكموه " وله من وجه آخر عن أبي نضرة " سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، فإني لقاعد عند أبي سعيد فسألته عن الصرف فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك لقولهما. فذكر الحديث قال " فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه". والصرف بفتح المهملة: دفع ذهب وأخذ فضة وعكسه، وله شرطان: منع النسيئة مع اتفاق النوع واختلافه وهو المجمع عليه، ومنع التفاضل في النوع الواحد منهما وهو قول الجمهور. وخالف فيه ابن عمر ثم رجع، وابن عباس واختلف في رجوعه وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي وهو بالمهملة والتحتانية " سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا بعين يدا بيد، وكان يقول: إنما الربا في النسيئة فلقيه أبو سعيد " فذكر القصة والحديث، وفيه " التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والذهب بالذهب والفضة بالفضة يدا بيد مثلا بمثل، فمن زاد فهو ربا، فقال ابن عباس: أستغفر الله وأتوب إليه، فكان ينهي عنه أشد النهي". واتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد فقيل: منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وقيل المعنى في قوله " لا ربا " الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد لأن دلالته بالمنطوق، ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدم والله أعلم. وقال الطبري: معنى حديث أسامة " لا ربا إلا في النسيئة " إذا اختلفت أنواع البيع والفضل فيه يدا بيد ربا جمعا بينه وبين حديث أبي سعيد. (تنبيه) : وقع في نسخة الصغاني هنا " قال أبو عبد الله " يعني البخاري " سمعت سليمان بن حرب يقول: لا ربا إلا في النسيئة هذا عندنا في الذهب بالورق والحنطة بالشعير متفاضلا ولا بأس به يدا بيد ولا خير فيه نسيئة " قلت: وهذا موافق وفي قصة أبي سعيد مع ابن عمر ومع ابن عباس أن العالم يناظر العالم ويوقفه على معنى قوله ويرده من الاختلاف إلى الاجتماع ويحتج عليه بالأدلة وفيه إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم. *3* الشرح: قوله: (باب بيع الورق بالذهب نسيئة) البيع كله إما بالنقد أو بالعرض حالا أو مؤجلا، فهي أربعة أقسام: فبيع النقد إما بمثله وهو المراطلة، أو بنقد غيره وهو الصرف. وبيع العرض بنقد يسمى النقد ثمنا والعرض عوضا، وبيع العرض بالعرض يسمى مقابضة. والحلول في جميع ذلك جائز، وأما التأجيل فإن كان النقد بالنقد مؤخرا فلا يجوز، وإن كان العرض جاز، وإن كان العرض مؤخرا فهو السلم، وإن كانا مؤخرين فهو بيع الدين بالدين وليس بجائز إلا في الحوالة عند من يقول إنها بيع، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ قَالَ سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ الصَّرْفِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ هَذَا خَيْرٌ مِنِّي فَكِلَاهُمَا يَقُولُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا الشرح: قوله: (عن الصرف) أي بيع الدراهم بالذهب أو عكسه، وسمى به لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التفاضل فيه، وقيل من الصريف وهو تصويتهما في الميزان، وسيأتي في أوائل الهجرة من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال " باع شريك لي دراهم - أي بذهب - في السوق نسيئة، فقلت: سبحان الله أيصلح هذا؟ فقال. لقد بعتها في السوق فما عابه على أحد، فسألت البراء بن عازب " فذكره. قوله: (هذا خير مني) في رواية سفيان المذكورة " قال فالق زيد بن أرقم فاسأله فإنه كان أعظمنا تجارة، فسألته " فذكره. وفي رواية الحميدي في مسنده من هذا الوجه عن سفيان " فقال صدق البراء " وقد تقدم في " باب التجارة في البر " من وجه آخر عن أبي المنهال بلفظ " إن كان يدا بيد فلا بأس، وإن كان نسيئا فلا يصلح " وفي الحديث ما كان عليه الصحابة من التواضع، وإنصاف بعضهم بعضا، ومعرفة أحدهم حق الآخر، واستظهار العالم في الفتيا بنظيره في العلم، وسيأتي بعد الكلام على هذا الحديث في الشركة إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب بيع الذهب بالورق يدا بيد) ذكر فيه حديث أبي بكرة الماضي قبل بثلاثة أبواب، وليس فيه التقييد بالحلول، وكأنه أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقة: فقد أخرجه مسلم عن أبي الربيع عن عباد الذي أخرجه البخاري من طريقه وفيه " فسأله رجل فقال: يدا بيد، فقال: هكذا سمعت " وأخرجه مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير عن يحيى بن أبي إسحاق فلم يسق لفظه، فساقه أبو عوانة في مستخرجه فقال في آخره " والفضة بالذهب كيف شئتم يدا بيد " واشتراط القبض في الصرف متفق عليه، وإنما وقع الاختلاف في التفاضل بين الجنس الواحد واستدل به على بيع الربويات بعضها ببعض إذا كان يدا بيد، وأصرح به حديث عبادة بن الصامت عند مسلم بلفظ " فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم". وَهِيَ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ وَبَيْعُ الْعَرَايَا قَالَ أَنَسٌ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ الشرح: قوله: (باب بيع المزابنة) بالزاي والموحدة والنون، مفاعلة من الزبن بفتح الزاي وسكون الموحدة وهو الدفع الشديد، ومنه سميت الحرب الزبون لشدة الدفع فيها، وقيل للبيع المخصوص المزابنة لأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه، أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع بفسخه، وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع. قوله: (وهي بيع التمر) بالمثناة والسكون (بالثمر) بالمثلثة وفتح الميم، والمراد به الرطب خاصة. وقوله "بيع الزبيب بالكرم " أي بالعنب، وهذا أصل المزابنة، وألحق الشافعي بذلك كل بيع مجهول بمجهول، أو بمعلوم من جنس يجري الربا في نقده قال: وأما من قال أضمن لك صبرتك هذه بعشرين صاعا مثلا فما زاد فلي وما نقص فعلي فهو من القمار وليس من المزابنة. قلت: لكن تقدم في " باب بيع الزبيب بالزبيب " من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر " والمزابنة أن يبيع الثمر بكيل إن زاد فلي وإن نقص فعلي " فثبت أن من صور المزابنة أيضا هذه الصورة من القمار، ولا يلزم من كونها قمارا أن لا تسمى مزابنة. ومن صور المزابنة أيضا بيع الزرع بالحنطة كيلا، وقد رواه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ " والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا، وبيع العنب بالزبيب كيلا، وبيع الزرع بالحنطة كيلا " وستأتي هذه الزيادة للمصنف من طريق الليث عن نافع بعد أبواب. وقال مالك: المزابنة كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده إذا بيع بشيء مسمى من الكيل وغيره، سواء كان من جنس يجري الربا في نقده أم لا. وسبب النهي عنه ما يدخله من القمار والغرر، قال ابن عبد البر: نظر مالك إلى معنى المزابنة لغة - وهي المدافعة - ويدخل فيها القمار والمخاطرة، وفسر بعضهم المزابنة بأنها بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وهو خطأ فالمغايرة بينهما ظاهرة من أول حديث في هذا الباب. وقيل هي المزارعة على الجزء وقيل غير ذلك، والذي تدل عليه الأحاديث في تفسيرها أولى. قوله: (قال أنس الخ) يأتي موصولا في " باب بيع المخاضرة " وفيه تفسير المحاقلة. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر من رواية ابنه سالم ومن رواية نافع كلاهما عنه، ثم حديث أبي سعيد في ذلك. وفي طريق نافع تفسير المزابنة، وظاهره أنها من المرفوع. ومثله في حديث أبي سعيد في الباب، وأخرجه مسلم من حديث جابر كذلك، ويؤيد كونه مرفوعا رواية سالم وإن لم يتعرض فيها لذكر المزابنة، وعلى تقدير أن يكون التفسير من هؤلاء الصحابة فهم أعرف بتفسيره من غيرهم. وقال ابن عبد البر: لا مخالف لهم في أن مثل هذا مزابنة، وإنما اختلفوا هل يلتحق بذلك كل ما لا يجوز إلا مثلا بمثل فلا يجوز فيه كيل بجزاف ولا جزاف بجزاف؟ فالجمهور على الإلحاق. وقيل يختص ذلك بالنخل والكرم. والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَلَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ قَالَ سَالِمٌ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أَوْ بِالتَّمْرِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ الشرح: قوله: (قال سالم) هو موصول بالإسناد المذكور، وقد أفرد حديث زيد بن ثابت في آخر الباب من طريق نافع عن ابن عمر عنه، وقد تقدم قبل أبواب من وجه آخر عن نافع مضموما في سياق واحد، وأخرجه الترمذي من طريق محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت ولم يفصل حديث ابن عمر من حديث زيد بن ثابت، وأشار الترمذي إلى أنه وهم فيه والصواب التفصيل، ولفظ الترمذي " عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة، إلا أنه قد أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بمثل خرصها " ومراد الترمذي أن التصريح بالنهي عن المزابنة لم يرد في حديث زيد بن ثابت وإنما رواه ابن عمر بغير واسطة، وروى ابن عمر استثناء العرايا بواسطة زيد بن ثابت، فإن كانت رواية ابن إسحاق محفوظة احتمل أن يكون ابن عمر حمل الحديث كله عن زيد بن ثابت وكان عنده بعضه بغير واسطة، واستدل بأحاديث الباب على تحريم بيع الرطب باليابس منه ولو تساويا في الكيل والوزن لأن الاعتبار بالتساوي إنما يصح حالة الكمال، والرطب قد ينقص إذا جف عن اليابس نقصا لا يتقدر وهو قول الجمهور، وعن أبي حنيفة الاكتفاء بالمساواة حالة الرطوبة، وخالفه صاحباه في ذلك لصحة الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك، وأصرح من ذلك حديث سعد بن أبي وقاص " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا نعم، قال: فلا إذا " أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم. قوله: (رخص بعد ذلك) أي بعد النهي عن بيع التمر بالثمر (في بيع العرايا) وهذا من أصرح ما ورد في الرد على من حمل من الحنفية النهي عن بيع الثمر بالتمر على عمومه ومنع أن يكون بيع العرايا مستثنى منه وزعم أنهما حكمان مختلفان وردا في سياق واحد، وكذلك من زعم منهم كما حكاه ابن المنذر عنهم أن بيع العرايا منسوخ بالنهي عن بيع الثمر بالتمر لأن المنسوخ لا يكون بعد الناسخ. قوله: (بالرطب أو بالتمر) كذا عند البخاري ومسلم من رواية عقيل عن الزهري بلفظ " أو " وهي محتملة أن تكون للتخيير وأن تكون للشك، وأخرجه النسائي والطبراني من طريق صالح بن كيسان والبيهقي من طريق الأوزاعي كلاهما عن الزهري بلفظ " بالرطب وبالتمر ولم يرخص في غير ذلك " هكذا ذكره بالواو وهذا يؤيد كون " أو " بمعنى التخيير لا الشك بخلاف ما جزم به النووي. وكذلك أخرجه أبو داود من طريق الزهري أيضا عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه وإسناده صحيح، وليس هو اختلافا على الزهري فإن ابن وهب رواه عن يونس عن الزهري بالإسنادين أخرجهما النسائي وفرقهما، وإذا ثبتت هذه الرواية كانت فيها حجة للوجه الصائر إلى جواز بيع الرطب المخروص عل رءوس النخل بالرطب المخروص أيضا على الأرض وهو رأي ابن خيران من الشافعية، وقيل لا يجوز وهو رأي الإصطخري وصححه جماعة، وقيل إن كانا نوعا واحدا لم يجز إذ لا حاجة إليه، وإن كان نوعين جاز وهو رأي أبي إسحاق وصححه ابن أبي عصرون، وهذا كله فيما إذا كان أحدهما على النخل والآخر على الأرض، وقيل ومثله ما إذا كانا معا على النخل، وقيل إن محله فيما إذا كانا نوعين، وفي ذلك فروع أخر يطول ذكرها. وصرح الماوردي بإلحاق البسر في ذلك بالرطب. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا الشرح: قوله: (بيع الثمر) بالمثلثة وتحريك الميم. وفي رواية مسلم " ثمر النخل " وهو المراد هنا، وليس المراد التمر من غير النخل فإنه يجوز بيعه بالتمر بالمثناة والسكون، وإنما وقع النهي عن الرطب بالتمر لكونه متفاضلا من جنسه. قوله: (كيلا) يأتي الكلام عليه في الحديث الذي بعده. قوله: (وبيع الكرم بالزبيب كيلا) في رواية مسلم " وبيع العنب بالزبيب كيلا " والكرم بفتح الكاف وسكون الراء هو شجر العنب والمراد منه هنا نفس العنب كما أوضحته رواية مسلم، وفيه جواز تسمية العنب كرما، وقد ورد النهي عنه كما سيأتي الكلام عليه في الأدب، ويجمع بينهما بحمل النهي على التنزيه ويكون ذكره هنا لبيان الجواز، وهذا كله بناء على أن تفسير المزابنة من كلام صلى الله عليه وسلم، وعلى تقدير كونه موقوفا فلا حجة على الجواز فيحمل النهي على حقيقته. واختلف السلف: هل يلحق العنب أو غيره بالرطب في العرايا؟ فقيل: لا وهو قول أهل الظاهر واختاره بعض الشافعية منهم المحب الطبري، وقيل: يلحق العنب خاصة وهو مشهور مذهب الشافعي، وقيل: يلحق كل ما يدخر وهو قول المالكية، وقيل: يلحق كل ثمرة وهو منقول عن الشافعي أيضا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ الشرح: قوله: (عن داود بن الحصين) هو المدني، وكلهم مدنيون إلا شيخ البخاري، وليس لداود ولا لشيخه في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الباب الذي يليه، وشيخه هو أبو سفيان مولى ابن أبي أحمد، ووقع في رواية مسلم " أن أبا سفيان أخبره أنه سمع أبا سعيد " وأبو سفيان مشهور بكنيته حتى قال النووي تبعا لغيره لا يعرف اسمه، وسبقهم إلى ذلك أبو أحمد الحاكم في الكنى لكن حكى أبو داود في السنن في روايته لهذا الحديث عن القعنبي شيخه فيه أن اسمه قزمان، وابن أبي أحمد هو عبد الله بن أبي أحمد ابن جحش الأسدي ابن أخي زينب جحش أم المؤمنين، وحكى الواقدي أن أبا سفيان كان مولى لبني عبد الأشهل وكان يجالس عبد الله بن أبي أحمد فنسب إليه. قوله: (والمزابنة اشتراء الثمر بالثمر على رءوس النخل) زاد ابن مهدي عن مالك عند الإسماعيلي " كيلا " وهو موافق لحديث ابن عمر الذي قبله، وذكر الكيل ليس به بقيد في هذه الصورة بل لأنه صورة المبايعة التي وقعت إذ ذاك فلا مفهوم له لخروجه على سبب أوله مفهوم، لكنه مفهوم الموافقة لأن المسكوت عنه أولى بالمنع من المنطوق، ويستفاد منه أن معيار التمر والزبيب الكيل، وزاد مسلم في آخر حديث أبي سعيد " والمحاقلة كراء الأرض " وكذا هو في الموطأ. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ الشرح: قوله: (عن الشيباني) هو أبو إسحاق، ووقع في رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي معاوية " حدثنا الشيباني " وسيأتي الكلام عن المحاقلة في " باب بيع المخاضرة " ووقع في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي سعيد عقب هذا الحديث مثله، والمزابنة في النخل والمحاقلة في الزرع. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا الشرح: قوله: (ارخص لصاحب العرية) بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية الجمع عرايا، وقد ذكرنا تفسيرها لغة. قوله: (أن يبيعها بخرصها) زاد الطبراني عن علي بن عبد العزيز عن القعنبي شيخ البخاري فيه " كيلا " ومثله للمصنف من رواية موسى بن عقبة عن نافع، وسيأتي بعد باب. ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك فقال بخرصها من التمر، ونحوه للمصنف من رواية يحيى بن سعيد عن نافع في كتاب الشرب، ولمسلم من رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد بلفظ " رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا " ومن طريق الليث عن يحيى بن سعيد بلفظ " رخص في بيع العرية بخرصها تمرا " قال يحيى: العرية أن يشتري الرجل تمر النخلات بطعام أهله رطبا بخرصها تمرا، وهذه الرواية تبين أن في رواية سليمان إدراجا، وأخرجه الطبراني من طريق حماد بن سلمة عن أيوب وعبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ " رخص في العرايا، النخلة والنخلتان يوهبان للرجل فيبيعهما بخرصهما تمرا " زاد فيه " يوهبان للرجل " وليس بقيد عند الجمهور كما سيأتي شرحه بعد باب. *3* الشرح: قوله: (باب بيع الثمر) بفتح المثلثة والميم (على رءوس النخل) أي بعد أن يطيب. وقوله "بالذهب أو الفضة " اتبع فيه ظاهر الحديث وسيأتي البحث فيه. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ وَلَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ إِلَّا الْعَرَايَا الشرح: قوله: (عن عطاء) هو ابن أبي رباح، وأبو الزبير هو محمد بن مسلم، كذا جمع بينهما ابن وهب، وتابعه أبو عاصم عند مسلم ويحيى بن أيوب عند الطحاوي، وكلاهما عن ابن جريج، ورواه ابن عيينة عند مسلم عن ابن جريج عن عطاء وحده، ووقع في روايته عن ابن جريج " أخبرني عطاء". قوله: (عن جابر) في رواية أبي عاصم المذكورة " أنهما سمعا جابر بن عبد الله". قوله: (عن بيع الثمر) بفتح المثلثة أي الرطب. قوله: (حتى يطيب) في رواية ابن عيينة " حتى يبدو صلاحه " وسيأتي تفسيره بعد باب. قوله: (ولا يباع شيء منه إلا بالدينار والدرهم) قال ابن بطال: إنما اقتصر على الذهب والفضة لأنهما جل ما يتعامل به الناس، وإلا فلا خلاف بين الأمة في جواز بيعه بالعروض يعني بشرطه. قوله: (إلا العرايا) زاد يحيى بن أيوب في روايته " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيها " أي فيجوز بيع الرطب فيها بعد أن يخرص ويعرف قدره بقدر ذلك من الثمر كما سيأتي البحث فيه، قال ابن المنذر: ادعى الكوفيون أن بيع العرايا منسوخ بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر وهذا مردود لأن الذي روى النهي عن بيع الثمر بالتمر هو الذي روى الرخصة في العرايا فأثبت النهي والرخصة معا. قلت: ورواية سالم الماضية في الباب الذي قبله تدل على أن الرخصة في بيع العرايا وقع بعد النهي عن بيع الثمر بالتمر، ولفظه عن ابن عمر مرفوعا " ولا تبيعوا الثمر بالتمر " قال: وعن زيد بن ثابت " أنه صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك في بيع العرية " وهذا هو الذي يقتضيه لفظ الرخصة فإنها تكون بعد منع، وكذلك بقية الأحاديث التي وقع فيها استثناء العرايا بعد ذكر بيع الثمر بالتمر، وقد قدمت إيضاح ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكًا وَسَأَلَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ أَحَدَّثَكَ دَاوُدُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَالَ نَعَمْ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب) هو الحجبي بفتح المهملة والجيم ثم موحدة، بصري مشهور. قوله: (حدثنا مالكا الخ) فيه إطلاق السماع على ما قرئ على الشيخ فأقر به، وقد استقر الاصطلاح على أن السماع مخصوص بما حدث به الشيخ لفظا. قوله: (وسأله عبيد الله) هو بالتصغير، والربيع أبوه هو حاجب المنصور وهو والد الفضل وزير الرشيد. قوله: (رخص) كذا للأكثر بالتشديد وللكشميهني " أرخص". قوله: (في بيع العرايا) أي في بيع ثمر العرايا لأن العرية هي النخلة والعرايا جمع عرية كما تقدم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قوله: (في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق) شك من الراوي، بين مسلم في روايته أن الشك فيه من داود بن الحصين، وللمصنف في آخر الشرب من وجه آخر عن مالك مثله، وذكر ابن التين تبعا لغيره أن داود تفرد بهذا الإسناد قال: وما رواه عنه إلا مالك بن أنس. والوسق ستون صاعا، وقد تقدم بيانه في كتاب الزكاة، وقد اعتبر من قال بجواز بيع العرايا بمفهوم هذا العدد ومنعوا ما زاد عليه، واختلفوا في جواز الخمسة لأجل الشك المذكور، والخلاف عند المالكية والشافعية، والراجح عند المالكية الجواز في الخمسة فما دونها، وعند الشافعية الجواز فيما دون الخمسة ولا يجوز في الخمسة، وهو قول الحنابلة وأهل الظاهر، فمأخذ المنع أن الأصل التحريم وبيع العرايا رخصة، فيؤخذ منه بما يتحقق منه الجواز ويلغي ما وقع فيه الشك. وسبب الخلاف أن النهي عن بيع المزابنة هل ورد متقدما ثم وقعت الرخصة في العرايا، أو النهي عن بيع المزابنة وقع مقرونا بالرخصة في بيع العرايا؟ فعلى الأول لا يجوز في الخمسة للشك في رفع التحريم، وعلى الثاني يجوز للشك في قدر التحريم، ويرجح الأول رواية سالم المذكورة في الباب قبله. واحتج بعض المالكية بأن لفظة " دون " صالحة لجميع ما تحت الخمسة، فلو عملنا بها للزم رفع هذه الرخصة، وتعقب بأن العمل بها ممكن بأن يحمل على أقل ما تصدق عليه وهو المفتى به في مذهب الشافعي، وقد روى الترمذي حديث الباب من طريق زيد بن الحباب عن مالك بلفظ " أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق " ولم يتردد في ذلك، وزعم المازري أن ابن المنذر ذهب إلى تحديد ذلك بأربعة أوسق لوروده في حديث جابر من غير شك فيه فتعين طرح الرواية التي وقع فيها الشك والأخذ بالرواية المتيقنة، قال: وألزم المزني الشافعي القول به ا ه، وفيما نقله نظر، أما ابن المنذر فليس في شيء من كتبه ما نقله عنه وإنما فيه ترجيح القول الصائر إلى أن الخمسة لا تجوز وإنما يجوز ما دونها، وهو الذي ألزم المزني أن يقول به الشافعي كما هو بين من كلامه، وقد حكى ابن عبد البر هذا القول عن قوم قال: واحتجوا بحديث جابر، ثم قال: ولا خلاف بين الشافعي ومالك ومن اتبعهما في جواز العرايا في أكثر من أربعة أوسق مما لم يبلغ خمسة أوسق ولم يثبت عندهم حديث جابر. قلت: حديث جابر الذي أشار إليه أخرجه الشافعي وأحمد وصححه ابن خزيمة ابن حبان والحاكم أخرجوه كلهم من طريق ابن إسحاق " حدثني محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع ابن حبان عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول: الوسق والوسقين والثلاثة والأربع " لفظ أحمد، وترجم عليه ابن حبان " الاحتياط أن لا يزيد على أربعة أوسق " وهل الذي قاله يتعين المصير إليه، وأما جعله حدا لا يجوز تجاوزه فليس بالواضح، واحتج بعضهم لمالك بقول سهل بن أبي حثمة " إن العرية تكون ثلاثة أوسق أو أربعة أو خمسة " وسيأتي ذكره في الباب الذي يليه، ولا حجة فيه لأنه موقوف. ومن فروع هذه المسألة ما لو زاد في صفقة على خمسة أوسق فإن البيع يبطل في الجميع. وخرج بعض الشافعية من جواز تفريق الصفقة أنه يجوز، وهو بعيد لوضوح الفرق، ولو باع ما دون خمسة أوسق في صفقة ثم باع مثلها البائع بعينه للمشتري بعينه في صفقة أخرى جاز عند الشافعية على الأصح، ومنعه أحمد وأهل الظاهر، والله أعلم. قوله: (قال نعم) القائل هو مالك، وكذلك أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى قال " قلت لمالك أحدثك داود " فذكره وقال في آخره " نعم " وهذا التحمل يسمى عرض السماع، وكان مالك يختاره على التحديث من لفظه. واختلف أهل الحديث هل يشترط أن يقول الشيخ " نعم " أم " لا " والصحيح أن سكوته ينزل منزلة إقراره إذا كان عارفا ولم يمنعه مانع، وإذا قال نعم فهو أولى بلا نزاع. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ بُشَيْرًا قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ يَبِيعُهَا أَهْلُهَا بِخَرْصِهَا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا قَالَ هُوَ سَوَاءٌ قَالَ سُفْيَانُ فَقُلْتُ لِيَحْيَى وَأَنَا غُلَامٌ إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فَقَالَ وَمَا يُدْرِي أَهْلَ مَكَّةَ قُلْتُ إِنَّهُمْ يَرْوُونَهُ عَنْ جَابِرٍ فَسَكَتَ قَالَ سُفْيَانُ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّ جَابِرًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قِيلَ لِسُفْيَانَ وَلَيْسَ فِيهِ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ قَالَ لَا الشرح: قوله: (سفيان) هو ابن عيينة. قوله: (قال يحيى بن سعيد) هو الأنصاري، وسيأتي في آخر الباب ما يدل على أن سفيان صرح بتحديث يحيى بن سعيد له به وهو السر في إيراد الحكاية المذكورة. قوله: (سمعت بشيرا) بالموحدة والمعجمة مصغرا، وهو ابن يسار بالتحتانية ثم المهملة مخففا الأنصاري. قوله: (سمعت سهل بن أبي حثمة) زاد الوليد بن كثير عند مسلم عن بشير بن يسار أن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة حدثاه، ولمسلم من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سهل بن أبي حثمة. قوله: (أن تباع بخرصها) هو بفتح الخاء المعجمة وأشار ابن التين إلى جواز كسرها، وجزم ابن العربي بالكسر وأنكر الفتح، وجوزهما النووي وقال الفتح أشهر، قال: ومعناه تقدير ما فيها: إذا صار تمرا، فمن فتح قال هو اسم الفعل، ومن كسر قال هو اسم للشيء المخروص اه. والخرص هو التخمين والحدس، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه في تفسير العرايا. قوله: (وقال سفيان مرة أخرى الخ) هو كلام علي بن عبد الله، والغرض أن ابن عيينة حدثهم به مرتين على لفظين والمعنى واحد، وإليه الإشارة بقوله " هو سواء " أي المعنى واحد. قوله: (قال سفيان) أي بالإسناد المذكور (فقلت ليحيى) أي ابن سعيد لما حدثه به. قوله: (وأنا غلام) جملة حالية، والغرض الإشارة إلى قدم طلبه وتقدم فطنته وأنه كان في سن الصبا يناظر شيوخه ويباحثهم. قوله: (رخص لهم في بيع العرايا) محل الخلاف بين رواية يحيى بن سعيد ورواية أهل مكة أن يحيى ابن سعيد قيد الرخصة في بيع العرايا بالجرس وأن يأكلها أهلها رطبا. وأما ابن عيينة في روايته عن أهل مكة فأطلق الرخصة في بيع العرايا ولم يقيدها بشيء مما ذكر. قوله: (قلت إنهم يروونه عن جابر) في رواية أحمد في مسنده عن سفيان " قلت أخبرهم عطاء أنه سمع من جابر". قلت: ورواية ابن عيينة كذلك عن ابن جريج عن عطاء عن جابر تقدمت الإشارة إليها وأنها تأتي في كتاب الشرب، وهي على الإطلاق كما في روايته التي في أول الباب. قوله: (قال سفيان) أي بالإسناد المذكور (إنما أردت) أي الحامل لي على قولي ليحيى بن سعيد " إنهم يروونه عن جابر " (أن جابرا من أهل المدينة) فيرجع الحديث إلى أهل المدينة، وكان ليحيى ابن سعيد أن يقول له: وأهل المدينة رووا أيضا فيه التقييد فيحمل المطلق على المقيد حتى يقوم الدليل على العمل بالإطلاق، والتقييد بالجرس زيادة حافظ فتعين المصير إليها. وأما التقييد بالأكل كالذي يظهر أنه لبيان الواقع لا أنه قيد، وسيأتي عن أبي عبيد أنه شرطه والله أعلم. قوله: (قيل لسفيان) لم أقف على تسمية القائل. قوله: (أليس فيه) أي في الحديث المذكور (نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه؟ قال لا) أي ليس هو في حديث سهل بن أبي حثمة، وإن كان هو صحيحا من رواية غيره، وسيأتي بعد باب. وقد حدث به عبد الجبار بن العلاء عن سفيان في حديث الباب بهذا اللفظ الذي نفاه سفيان، وحكى الإسماعيلي عن ابن صاعد أنه أشار إلى أنه وهم فيه. قلت. قد أخرجه النسائي عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري عن سفيان كذلك، فظهر أن عبد الجبار لم ينفرد بذلك.
|